اتخاذ القرار
{ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}
إن كثيراً منا يضطرب عندما يريد أن يتخذ قرارا, فيصيبه القلق والحيرة والإرباك والشك, فيبقى في ألم ٍ مستمر وفي صداع دائم, إن على العبد أن يشاور وان يستخير الله, وان يتأمل قليلاً, فإذا غلب على ظنه الرأي الأصوب والمسلك الأحسن أقدم بلا إحجام, وانتهى وقت المشاورة والاستخارة, وعزم وتوكل, وصمم وجزم, لينهي حياة التردد والاضطراب.
لقد شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وهو على المنبر يوم أحد, فأشاروا عليه بالخروج, فلبس لامته واخذ سيفه, قالوا: لعلنا أكرهناك يارسول الله؟ لو بقيت في المدينة. قال صلى الله عليه وسلم ((ماكان لنبي إذا لبس لأمته أن ينزعها حتى يقضي الله بينه وبين عدوه)). وعزم صلى الله عليه وسلم على الخروج.
إن المسألة لاتحتاج إلى تردد, بل إلى مضاء وتصميم وعزم أكيد, فان الشجاعة والبسالة والقيادة في اتخاذ القرار.
تداول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه الرأي في بدر {{ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر}} , {{ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}} , فأشاروا عليه, فعزم صلى الله عليه وسلم وأقدم, ولم يلو على شيء.
إن التردد فساد في الرأي, وبرود في الهمة, وخور في التصميم, وشتات للجهد, وإخفاق في السير. وهذا التردد مرض لا دواء له إلا العزم والجزم والثبات, اعرف أناسا من سنوات وهم يقدمون ويحجمون في قرارات صغيرة, وفي مسائل حقيرة, وما أعرف عنهم إلا روح الشك والاضطراب, في أنفسهم وفي من حولهم.
انه يجب عليك بعد أن تدرس الواقعة, وتتأمل المسألة, وتستشير أهل الرأي , وتستخير رب السموات والأرض, أن تقدم ولا تحجم, وان تنفذ ماظهر لك عاجلاً غير آجل .
وقف أبو بكر الصديق يستشير الناس في حروب الردة, فأشار الناس كلهم عليه بعدم القتال, لكن هذا الخليفة الصديق انشرح صدره للقتال, لأن هذا إعزاز للإسلام, وقطع لدابر الفتنة, وسحق للفئات الخارجة على قداسة الدين, ورأى بنور الله أن القتال خير, فصمم على رأيه, واقسم: والذي نفسي بيده , لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة, والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه. قال عمر: فلما علمت أن الله شرح صدر أبي بكر, علمت انه الحق, ومضى وانتصر وكان رأيه الطيب المبارك, الصحيح الذي لا لبس فيه ولا عوج.
إلى متى نضطرب؟ والى متى نراوح في أماكننا ؟ والى متى نتردد في اتخاذ القرار؟
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فان فساد الــرأي أن تترددا
إن من طبيعة المنافقين إفشال الخطة بكثرة تكرار القول وإعادة النظر في الرأي {{لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ}}
إنهم يصطحبون ( لو ) دائما, ويحبون ( ليت ) ويعشقون ( لعل ) فحياتهم مبنية على التسويف, وعلى الإقدام والإحجام, وعلى التذبذب . {{مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء}}.
مرة معنا ومرة معهم , مرة هنا ومرة هناك .
{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}
إن من تعاسة العبد, وعثرة قدمه وسقوط مكانته: ظلمه لعباد الله, وهضمه حقوقهم, وسحقه ضعيفهم, حتى قال أحد الحكماء: خف ممن لم يجد له عليك ناصراً الا الله.
ولقد حفظ لنا تاريخ الأمم أمثلة حية في الأذهان عن عواقب الظلمة. فهذا عامر بن الطفيل يكيد للرسول صلى الله عليه وسلم, ويحاول اغتياله, فيدعو عليه صلى الله عليه وسلم, فيبتليه الله بغدة ٍ في نحره, فيموت لساعته, وهو يصرخ من الألم.
وأربد بن قيس يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويسعى في تدبير قتله, فيدعو عليه, فينزل الله عليه صاعقة تحرقه هو وبعيره.
وقبل أن يقتل الحجاج سعيد بن جبير بوقت قصير, دعا عليه سعيد وقال: اللهم لاتسلطه على أحد بعدي. فأصاب الحجاج خراج في يده, ثم انتشر في جسمه, فأخذ يخور كما يخور الثور, ثم مات في حالة مؤسفة.
واختفى سفيان الثوري خوفا من أبي جعفر المنصور, وخرج أبو جعفر يريد الحرم المكي وسفيان داخل الحرم, فقام سفيان وأخذ بأستار الكعبة, ودعا الله عزوجل أن لا يدخل أبا جعفر بيته, فمات أبو جعفر عند بئر ميمون قبل دخوله مكة.
وأحمد بن أبي دؤاد القاضي المعتزلي يشارك في إيذاء الإمام أحمد بن حنبل فيدعـو عليهم فيصيبه الله بمرض الفالج فكان يقول: اما نصف جسمي فلو وقع عليه الذباب, لظننت أن القيامة قامت, وأما النصف الآخر فلو قرض بالمقاريض ماأحسست.
ويدعو أحمد بن حنبل أيضا على ابن الزيات الوزير, فيسلط الله عليه من أخذه, وجعله في فرنٍ من نار, وضرب المسامير في رأسه.
وحمزة البسيوني كان يعذب المسلمين في سجن جمال عبدالناصر, ويقول في كلمةٍ له مؤذية: ( أين إلهكم لأضعه في الحديد )؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. فاصطدمت سيارته وهو خارج من القاهرة إلى الإسكندرية بشاحنة تحمل حديداً فدخل الحديد في جسمه من أعلى رأسه إلى أحشائه, وعجز المنقذون أن يخرجوه إلا قطعاً
{وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ}
{{ الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيه الفساد * فصب عليهم ربك سوط عذاب}}.
ياسعـــــــــــادة هؤلاء
ابو بكر رضي الله عنه بآية: {{ وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى}}.
عمر رضي الله عنه بحديث: (( رأيت قصراً أبيض في الجنة, قلت: لمن هذا القصر؟قيل لي: لعمر بن الخطاب)).
وعثمان رضي الله عنه بدعاء: (( اللهم اغفر لعثمان ما تقدم من ذنبه وماتأخر )).
وعلي رضي الله عنه: (( رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله )).
وسعد بن معاذ رضي الله عنه : (اهتز له عرش الرحمن ).
وعبدالله بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه ( كلمه الله كفاحاً بلا ترجمان ).
وحنظلة رضي الله عنه : ( غسلته ملائكة الرحمن )
وياشقــــــــــاوة هؤلاء
فرعون : {{ النار يعرضون عليها غدوا وعشياً }}.
وقارون: {{ فخسفنا به وبداره الأرض }}.
والوليد بن المغيرة: {{ سأرهقه صعوداً }}.
وأمية بن خلف : {{ ويل لكل همزة لمزة }}.
وأبو لهب: {{ تبت يدا أبي لهب وتب }}.
والعاص بن وائل : {{ كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مداً }}.
كن جميلاً ترى الوجود جميلاً
إن من تمام سعادتنا أن نتمتع بمباهج الحياة في حدود منطق الشرع المقدس, فالله أنبت حدائق ذات بهجة, لأنه جميل يحب الجمال, ولتقرأ آيات الوحدانية في هذا الصنع البهيج {{ هو الذي خلق لكم مافي الأرض جميعا }}.
فالرائحة الزكية والمطعم الشهي والمنظر البهي , تزيد الصدر انشراحاً والروح فرحاً {{ كلوا مما في الأرض حلالا طيباً }}.
وفي الحديث: (( حبب إلي من دنياكم: الطيب, والنساء, وجعلت قرة عيني في الصلاة }}.
إن الزهد القاتم والورع المظلم, الذي دلف علينا من مناهج أرضية, قد شوه مباهج الحياة عند كثير منا, فعاشوا حياتهم هما وغما وجوعاً وسهراً وتبتلاً , يقول رسولنا : (( لكني أصوم وأفطر, وأقوم وأفتر, وأتزوج النساء, وآكل اللحم, فمن رغب عن سنتي فليس مني )).
وان تعجب, فعجب مافعله بعض الطوائف بأنفسهم! فهذا لا يأكل الرطب, وذاك لا يضحك, وآخر لا يشرب الماء البارد, وكأنهم ما علموا أن هذا تعذيب للنفس وطمس لإشراقها {{ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق }}.
إن رسولنا أكل العسل وهو أزهد الناس في الدنيا, والله خلق العسل ليؤكل: {{ يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس }}.وتزوج الثيبات والأبكار: {{ فانكحوا ماطاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع }}.
ولبس أجمل الثياب في مناسبات الأعياد وغيرها: {{ خذوا زينتكم عند كل مسجد }}. فهو يجمع بين حق الروح وحق الجسد, وسعادة الدنيا والآخرة, لأنه بعث بدين الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
ثمنك إيمانك وخلقك
مر هذا الرجل الفقير المعدم, وعليه أسمال بالية وثياب رثة, جائع البطن, حافي القدم, مغمور النسب, لاجاه ولا مال ولا عشيرة, ليس له بيت يأوي إليه, ولا أثاث ولا متاع, يشرب من الحياض العامة بكفيه مع الواردين, وينام في المسجد, مخدته ذراعه, وفراشه البطحاء, لكنه صاحب ذكر لربه وتلاوة لكتاب مولاه, لا يغيب عن الصف الأول في الصلاة والقتال, مر ذات يوم برسول الله فناداه باسمه وصاح به: (( ياجليبيب ألا تتزوج؟ )). قال: يارسول الله, ومن يزوجني؟ ولا مال ولا جاه؟ ثم مر به أخرى, فقال له مثل قوله الأول, وأجاب بنفس الجواب, ومر ثالثة, فأعاد عليه السؤال وأعاد هو الجواب, فقال : (( ياجليبيب انطلق إلى بيت فلان الأنصاري وقل له: رسول الله صلى يقرئك السلام ويطلب منك أن تزوجني بنتك )).
وهذا الأنصاري من بيت شريف وأسرة موقرة فانطلق جليبيب إلى هذا الأنصاري وطرق عليه الباب واخبره بما أمره به رسول الله فقال الأنصاري: على رسول الله السلام, وكيف أزوجك بنتي ياجليبيب ولا مال ولا جاه؟ وتسمع زوجته الخبر فتعجب وتتساءل: جليبيب! لا مال ولا جاه؟ فتسمع البنت المؤمنة كلام جليبيب ورسالة الرسول فتقول لأبويها: أتردان طلب رسول الله , لا والذي نفسي بيده.
وحصل الزواج المبارك والذرية المباركة والبيت العامر, المؤسس على تقوى من الله ورضوان
ونادى منادي الجهاد, وحضر جليبيب المعركة, وقتل بيده سبعة من الكفار, ثم قتل في سبيل الله, وتوسد الثرى راضياً عن ربه وعن رسوله وعن مبدئه الذي مات من اجله, ويتفقد الرسول القتلى فيخبره الناس بأسمائهم, وينسون جليبيباً في غمرة الحديث, لأنه ليس لامعاً ولا مشهوراً, لكن الرسول يذكر جليبيباً ولا ينساه, ويحفظ اسمه في الزحام ولا يغفله, ويقول: (( لكنني افقد جليبيباً )).
ويجده وقد تدثر بالتراب, فينفض التراب عن وجهه ويقول له: (( قتلت سبعة ثم قتلت؟ أنت مني وأنا منك, أنت مني وأنا منك, أنت مني وأنا منك)) ويكفي هذا الوسام النبوي جليبيباً عطاء ومكافأة وجائزة.
إن ثمن جليبيبٍ, إيمانه وحب رسول الله له, ورسالته التي مات من اجلها. إن فقره وعدمه وضآلة أسرته لم تؤخره عن هذا الشرف العظيم والمكسب الضخم, لقد حاز الشهادة والرضا والقبول والسعادة في الدنيا والآخرة: {{ فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون }}.
إن قيمتك في معانيك الجليلة وصفاتك النبيلة.
إن سعادتك في معرفتك للأشياء واهتماماتك وسموك.
إن الفقر والعوز والخمول, ماكان يوماً من الأيام عائقاً في طريق التفوق والوصول والاستعلاء.
هنيئاً لمن عرف ثمنه فعلاً بنفسه, وهنيئاً لمن أسعد نفسه بتوجيهه وجهاده ونبله, وهنيئاً لمن أحسن مرتين, وسعد في الحياتين, وافلح في الكرتين, الدنيا والآخرة .
لا تحمل الكرة الأرضية على رأسك
نفر من الناس تدور في نفوسهم حرب عالمية, وهم على فرش النوم, فإذا وضعت الحرب أوزارها غنموا قرحة المعدة, وضغط الدم والسكري.
يحترقون مع الأحداث, يغضبون من غلاء الأسعار, يثورون لتأخر الأمطار, يضجون لانخفاض سعر العملة, فهم في انزعاج دائم, وقلق واصب {{ يحسبون كل صيحة عليهم }}.
ونصيحتي لك أن لا تحمل الكرة الأرضية على رأسك, دع الأحداث على الأرض ولا تضعها في أمعائك. إن البعض عنده قلب كالأسفنجة يتشرب الشائعات والأراجيف, ينزعج للتوافه, يهتز للواردات, يضرب لكل شيء, وهذا القلب كفيل أن يحطم صاحبه, وان يهدم كيان حامله.
أهل المبدأ الحق تزيدهم العبر والعظات إيمانا إلى إيمانهم, وأهل الخور تزيدهم الزلازل خوفاً إلى خوفهم, وليس انفع أمام الزوابع والدواهي من قلب شجاع, فان المقدام الباسل واسع البطان, ثابت الجأش, راسخ اليقين, بارد الأعصاب, منشرح الصدر, أما الجبان فهو يذبح نفسه كل يوم مرات بسيف التوقعات والأراجيف والأوهام والأحلام, فان كنت تريد الحياة المستقرة فواجه الأمور بشجاعة وجلد, ولا يستخفنك الذين لا يوقنون, ولا تك في ضيق مما يمكرون, كن أصلب من الأحداث, واعتى من رياح الأزمات, وأقوى من الأعاصير, وارحمتاه لأصحاب القلوب الضعيفة, كم تهزهم الأيام هزاً {{ ولتجدنهم أحرص الناس على حياة }}, وأما الأباة فهم من الله في مدد, وعلى الوعد في ثقة {{ فأنزل السكينة عليهم }}