سبب تقديم قوله تعالى في سورة الرحمن : ( عَلَّمَ الْقُرْآنَ ) على قوله ( خَلَقَ الإِنسَانَ ) في هذه السورة العظيمة من سور القرآن الكريم يتعرف الله سبحانه وتعالى إلى خلقه بنعمه عليهم ، وآلائه التي ملأت أرجاء السماء والأرض ، يذكرهم بها عبوديتهم له عز وجل ، ويلزمهم طاعته وابتغاء مرضاته . ولما كان القرآن الكريم النعمة الكبرى والآية العظمى التي أنزلت على الإنسانية جمعاء ، بدأ بها عز وجل ، وقدمها على كل شيء ، حتى على خلق الإنسان نفسه ، ليوحي بذلك إلى الغاية التي خلق الإنسان من أجلها ، وهي معرفة وحي الله والإلتزام به ، فلا يشتغل الإنسان بالخلق عن الخالق ، ولا بالوسيلة عن المقصد . وذكر الله تعالى خلق الإنسان بعد ذِكْر تعليم القرآن ليبين أن الإنسان هو المقصود بتعليم القرآن . ( الرَّحْمَنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ ، خَلَقَ الإنْسَانَ ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ) الرحمن 1 - 4 . قال أبو حيان الأندلسي رحمه الله : " ولما عدّد نعمه تعالى ، بدأ مِن نِعَمه بما هو أعلى رتبها ، وهو تعليم القرآن ، إذ هو عماد الدين ونجاة من استمسك به . ولما ذكر تعليم القرآن ولم يذكر المعلَّم ، ذكره بعد في قوله : ( خَلَقَ الإنْسَانَ ) ، ليُعلم أنه المقصود بالتعليم " انتهى . ( البحر المحيط 10/187) . وقال الألوسي رحمه الله : " ثم أتبع سبحانه نعمة تعليم القرآن بخلق الإنسان فقال تعالى : ( خَلَقَ الإنْسَانَ ) ؛ لأن أصل النعم عليه ، وإنما قدم ما قدم منها لأنه أعظمها ، وقيل : لأنه مشير إلى الغاية من خلق الإنسان ، وهو كماله في قوة العلم ، والغاية متقدمة على ذي الغاية ذِهْنًا ، وإن كان الأمر بالعكس خارجا " انتهى . ( روح المعاني 27/99 ) . وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " وبدأ الله تعالى بتعليم القرآن قبل خلق الإنسان إشارة إلى أن نعمة الله علينا بتعليم القرآن أشد وأبلغ من نعمته بخلق الإنسان ، وإلا من المعلوم أن خلق الإنسان سابقٌ على تعليم القرآن ، لكن لما كان تعليم القرآن أعظمَ مِنَّةٍ من الله عز وجل على العبد قدمه على خلقه " انتهى . ( لقاءات الباب المفتوح رقم 188 ) . والله أعلم .