قصة إبراهيم الحويش و”المرياع” في برية الشرقاط
في برّية الشرقاط، تلك الأرض الممتدة بين الهضاب والوديان، حيث تتنفس الأرض تاريخًا وحياة، عاش إبراهيم الحويش، راعيًا لا ككل الرعاة، بل شيخ الرعاة وسيد البرّ. لم تكن له خيمة تُعرف باسمه فقط، بل كانت خيمته مرجعًا للعابرين، وعنوانًا للكرم والعقل الراجح.
كان إبراهيم يملك قطيعًا من الأغنام يُضرب به المثل، لكن جوهرة القطيع كانت كبشًا عظيمًا يسمّيه “المرياع”. وكان المرياع عنده ليس مجرد قائد، بل رمز للسيادة والانضباط، وكان يُطلق عليه اسم “عقاب”، لأنه يشمخ كالطير الجارح، لا يرضى لنفسه أن يسير في الصف، بل يقود القطيع كأنه يملك الأرض.
كان إبراهيم يعتني بعقاب عناية ملوك، يزيّنه بزينة مبهرة: خرزات زرق، وأصباغ من الكركم على الجبهة، وحناء على الأرجل، وحلقات نحاسية على القرنين، تلمع تحت شمس الشرقاط، فتجعل عقاب أشبه بمحارب قديم خرج من صفحات التاريخ.
أما الحراسة، فكان لها وضحا وسرحان، كلبان من أصلٍ عتيق، يُقال إن أصلهما من سلالة كلاب الصيد الملكية التي كانت تُربّى أيام المناذرة. وضحا سريعة كالسهم، وسرحان لا يعرف النوم حين يحين وقت الحراسة.
ذات يوم من أيام الربيع، وبينما إبراهيم يرعى قطيعه قرب وادي “الزوية”، نزل الليل فجأة بثقله، وجاء معه ضباب خفيف. سكن المكان، وسكنت معه الطيور. لكن الحذر كان حليف الكلاب، فشمّت وضحا رائحة غريبة في الهواء، ووقف سرحان مشدود الأذنين.
وفجأة، سمع إبراهيم صوتًا خافتًا في الأدغال، صوت زحف… ذئب أسود من ذئاب جبال مكحول، يُعرف بلقب “الشيطان الرمادي”، لا يهاجم من الأمام، بل يراوغ ويخطف، ولا يظهر إلا إذا كان وحده جائعًا.
لكن هذه الليلة لم تكن له.
قفز سرحان من اليمين ووضحا من الشمال، وفي لحظة، اندفع عقاب المرياع بنفسه، يُزبد ويركض نحو الصوت، قرناه مثل السلاح، وضرب صدره الأرض كمن يعلن الحرب. اشتبك الثلاثة مع الذئب في لحظة أسطورية، وقف إبراهيم على صخرة قريبة، ينادي:
“اثبت يا عقاب… شدّي يا وضحا!”
لم تدم المعركة طويلًا، فقد انسحب الذئب مدمى، هاربًا من ميدانٍ لم يكن له. عاد القطيع ليتجمع حول المرياع، وكأنهم يحيّونه. وعاد إبراهيم يُمسك قرني عقاب ويهمس له بفخر:
“يا ولد الحويش… ما تخليت عنهم.”
في اليوم التالي، جلب إبراهيم خيوطًا حريرية، وصنع طوقًا جديدًا لعقاب، زاده خرزًا وفخارًا، وجعل على صدره صفًا من الأجراس الصغيرة، تهزّ الأرض بصوتها حين يمشي.
ومنذ تلك الليلة، إذا سُمعت أجراس تمشي في ليل الشرقاط، قيل:
“هذي خطا المرياع… ووراها ذياب ما تقرب.”
وصارت حكاية إبراهيم الحويش والمرياع تُروى على نار المجالس، وسُطّرت في ذاكرة البرّ، كما تُسطَّر الأساطير على صخور الجبال.