لم يمض على ذلك طويل وقت حتى أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ديار الشام يتفقد أحوالها فلما نزل بحمص ـ وكانت تدعى " الكويفة " وهو تصغير للكوفة وتشبيه لحمص بها لكثرة شكوى أهلها من عمالهم وولاتهم كما كان يفعل أهل الكوفة ـ فلما نزل بها لقيه أهلها للسلام عليه فقال : كيف وجدتم أميركم ؟ فشكوه إليه وذكروا أربعا من أفعاله ، كل واحد منها أعظم من الآخر .
قال عمر فجمعت بينه وبينهم ، ودعوت الله ألايخيب ظني فيه ؛ فقد كنت عظيم الثقة به . فلما أصبحوا عندي هم وأميرهم ، قلت : ما تشكون من أميركم ؟
قالوا : لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار
فقلت : وما تقول في ذلك يا سعيد ؟
فسكت قليلا ، ثم قال : والله إني كنت أكره أن أقول ذلك أما وإنه لابد منه ، فإنه ليس لأهلي خادم ، فأقوم في كل صباح فأعجن لهم عجينهم ، ثم أتريث قليلا حتى يختمر ، ثم أخبزه لهم ، ثم أتوضأ وأخرج للناس .
قال عمر : فقلت لهم : وما تشكون منه أيضا ؟
قالوا : إنه لايجيب أحد بليل .
قلت : وما تقول في ذلك يا سعيد ؟
قال : إني والله كنت أكره أن أعلن هذا أيضا فأنا جعلت النهار لهم والليل لله عز وجل .
قلت : وما تشكون منه أيضا .
قالوا : إنه لا يخرج إلينا يوما في الشهر
قلت : وما هذا يا سعيد ؟
قال : ليس لي خادم يا أمير المؤمنين ، وليس عندي ثياب غير التي علي ، فأنا أغسلها في الشهر مرة وأنتظرها حتى تجف ، ثم أخرج إليهم في آخر النهار .
ثم قلت : وما تشكون منه أيضا.
قالوا : تصيبه من حين إلى آخر غشية فيغيب عمن في مجلسه
فقلت : وما هذا يا سعيد ؟!
فقال : شهدت مصرع خبيب بن عدي وأنا مشرك ، ورأيت قريشا تقطع جسده وهي تقول : أتحب أن يكون محمد مكانك ؟ فيقول : والله ما أحب ان أكون آمنا في أهلي وولدي ، وأن محمد تشوكه شوكة... وإني والله ما ذكرت ذلك اليوم وكيف أني تركت نصرته إلا ظننت أن الله لا يغفر لي ... وأصابتني تلك الغشية .
عند ذلك قال عمر : الحمد لله الذي لم يخيب ظني به .
ثم بعث له بألف دينار ليستعين بها على حاجته . فلما رأتها زوجته قالت له : الحمد لله الذي أغنانا عن خدمتك ، اشتر لنا مؤنة واستأجر لنا خادما فقال لها : وهل لك فيما هو خير من ذلك ؟ قالت : وما ذاك ؟! قال : ندفعها إلى من يأتينا بها ، ونحن أحوج ما نكون إليها .
قالت : وما ذاك ؟! قال : نقرضها الله قرضا حسنا قالت : نعم ، وجزيت خيرا . فما غادر مجلسه الذي هو فيه حتى جعل الدنانير في صرر ، وقال لواحد من أهله : انطلق بها إلى أرملة فلان ، وإلى أيتام فلان وإلى مساكين آل فلان وإلى معوزي آل فلان .
رضي الله عن سعيد بن عامر الجمحي فقد كان من الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة .
المصدر: كتاب : قصص من حياة الصحابة ..~