يكتبها ويصورها: محمد اليوسفي
تناولت في الجزء الأول من هذا المقال قصيدة نشرت لأحد قراء «الرياض» صور العيش في حياة البدو في البراري هي غايته رافضاً حياة المدن والحاضرة، ومنها قلت إن ما يفهم من قصائد عدد من الشعراء الشعبيين (حالياً) أنه حب لمعيشة البادية لا يعدو كونه حب (مؤقت) لطبيعة الحياة البرية وليس رغبة حقيقية في الانتقال إلى حياة البدو بأطرها القديمة، وبينت - اعتماداً على المصادر اللغوية - أصل كلمة بادية وحاضرة، وأن المعنى القياسي لهما كنمط من المعيشة ينفي أن يكون هناك بدو في التوصيف الدقيق للمعنى. وأشرت إلى عدم دقة توصيف مصطلح (البادية) كمعيار لتحديد نسبة البدو في تعداد سكان المملكة.
في حقب تاريخية قبل توحيد المملكة أملت الحاجة والجوع وانعدام الأمن أن تسود مفاهيم معكوسة يُنظر إليها بنوع من التبجيل بين سكان البادية، فالفرد من هؤلاء كان مجبراً على أن ينصهر في الجماعة أو القبيلة بما في ذلك الولاء لها ولقيمها، فالاعتداء وقطع الطريق (فروسية)، وسلب الجماعات والقبائل الأخرى وتعمد الاعتداء والإغارة يسمى (الكسب)، و(الرجال) يترفعون عن سكن القرى ويزدرون من ينتفع من حرفة الزراعة، ولم تتزحزح هذه المفاهيم وغيرها مما يدل على رسوخ الجهل إلا مع تأليف القبائل وتوحيدها، فأصبح الولاء للوطن، وأدى الانخراط في التعليم تدريجياً إلى تهذيب المفاهيم، وسرعان ما فرضت طبيعة الحياة أن يتبدل (المقطان) إلى قرية فمدن تضم الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية والاقتصادية التي لم يستفد منها ابن الصحراء لولا أنه انصهر في الحاضرة، بل إن مناطق واسعة من تلك التي كانت مراعي يقع عليها التنازع إلى حد الاقتتال تحولت إلى (مزارع) منتجة بأيدي أبناء من كانوا يتنازعون عليها سابقاً. وبالتأكيد تلك نهضة كان ورادها عمل مخطط له لكن المؤدي أنها انتهت إلى أن حياة البادية بإطارها المتعارف عليه قديماً قد تلاشت، وحتى القيم التي ينظر إليها أنها نبيلة تغيرت، فما كان يعتبر كرماً - وهي الصفة التي تميز ابن الصحراء - بالشكل الذي يروى عن قصص الشيوخ والفرسان أصبح إسرافاً بعد التحضر، وما هي شجاعة عند بعضهم أصبحت تهوراً. ولك أن تستعرض جملة من الصفات والقيم وتتأمل كيف تهذبت وترشدت.
لقد طاف الجزيرة العربية في القرنين الأخيرين عدد من الرحالة الأجانب، ودونوا مشاهداتهم في كتب لا تزال أحد أهم مصادر البحث في تاريخ الجزيرة العربية وطبيعة سكانها، ومن أبرز هؤلاء جون فيلبي ومبارك بن لندن وقبلهم داوتي وأويتنج وغيرهما، كل هؤلاء لم يتح لهم عبور الصحاري المهلكة لولا استعانتهم بأبناء القبائل في أكثر من منطقة، فكانوا يحتكون مع كل القبائل بشكل مباشر. وما يعنيني لموضوع المقال أن كتب الرحالة مليئة بأوصاف تدل على استغرابهم من قدرة مرافقيهم العجيبة على تحمل خشونة العيش والتعايش مع مناخات الصحراء المضطربة، ولا شك أن تلك صفة تميز ابن البادية قديماً، لكن نحتاج إلى التفتيش الدقيق حتى كوربرشوك الذي جاء إلى المملكة واحتك بأشهر القبائل إبان ما سمي وقت الطفرة. والواقع أن الإنسان جبل على الراحة والرفاهية فكيف إذا كانت ظروف معيشته لا تحتم عليه أن ينغمس (معاشاً) في الصحراء بطبيعتها القاسية ناهيك عن أنه لا حاجة لذلك مؤخراً، وبالتالي لا وجود لمن كانوا يتحملون خشونة العيش في الصحراء لأنهم غير مصنفين (واقعا) كسكان بادية.أعود إلى ما يتعلق بالشعر الشعبي؛ حيث تعتبر دواوينه القديمة مصدراً ثرياً لدراسة تاريخ الجزيرة العربية وطبيعة سكانها إذا لم تكن المصدر الوحيد في حقب محددة، عندما كانت المنطقة فقيرة ومعزولة ثقافياً، فالقصائد المحفوظة خاصة في الهجاء والمدح أشبه بسجلات رصد وتدوين نفهم منها (حالياً) ما كانت عليه أحوال البادية، لأن أدبيات الشعراء وقتذاك نتاج عصرهم، لكن ذلك لا ينسحب على الشعراء الآن، من حيث العزف؛ في قصائد المدح، على أدبيات بائدة، فمثلاً عندما يفتخر الشاعر الشعبي الآن بجماعته على أنهم (مروية حد السيوف أو مشبعة عكف المخاليب) أو يمدح شخصاً ما بأنه (حماي التوالي أو مبعد الخيل) بينما تجد الممدوح يمتطي سيارة فارهة مجهزة بأحدث أجهزة تحديد المواقع المتصلة بالأقمار الصناعية، هذا تزييف أو في أقل تقدير تأثر من الشاعر بأدبيات قدماء الشعراء لكنه تأثر أجوف بلا وعي، والخلاصة أن من كانوا من أهل البادية لن يطربهم الافتخار إلا بما يكتسبونه في ميادين العلم وما يحققونه من إنجازات ونجاحات على أرض الواقع سواء كانت ثقافية أو اجتماعية أو مالية أو وظيفية.
ثمة جانب آخر ليس أخيراً يتعلق بما نشاهده من برامج أو بالأحرى مشاهد بلا منهجية عبر ما يسمى القنوات الفضائية الشعبية والتي يدعي ملاكها أنهم معنيون بخدمة الموروث الشعبي وثقافة البادية بينما معظمهم (مستثمرون) فاقدو الرؤية والروية. بعض هذه القنوات وعلى مدار ساعات البث كلها تبالغ في تسليط الأضواء على مجموعة أصيبوا بهوس اقتناء الإبل و(الاتجار) بمزايناتها مع ما يصاحب ذلك من إنشاد قصائد مدح (مدفوعة)، حتى ليبدو كأنها تكرس أن (استعراض البل) مع الفوضى والأخطاء المصاحبة (لميادين القلطة) أنها العنون الأبرز لثقافة البادية. وبصرف النظر عن أشرطة الرسائل القصيرة المراهقة على شاشات هذه القنوات بما تحمله من مضمون سيئ التأثير، أقول إن الاعتناء بالموروث الشعبي والاهتمام بثقافة الصحراء لا يكون بهذه الصيغة وبخاصة أننا نرى في الواقع نماذج من الشخصيات التي تنحدر أصولها من البادية بارزة ومميزة ومشرفة في أكثر من مجال ومهنة، وهؤلاء هم الذين يستحقون تسليط الأضواء. بقي أقول إن تعلق بعضنا بما أسميه (الطبيعة البرية) أياً كان المظهر لا يعني البداوة لأنها نمط من المعيشة اندثر ولم يعد في المملكة جماعة يمكن حقيقة وصفهم بالبدو.
وفي الأسبوع المقبل لنا لقاء من قلب الصحراء
منقول من جريدة الرياض