عرض مشاركة واحدة
قديم منذ /21-06-2010   #1

 

الصورة الرمزية الاحترام

 

الاحترام غير متواجد حالياً

 رقم العضوية : 510
 تاريخ التسجيل : Oct 2009
 المشاركات : 1,623
 النقاط : الاحترام is on a distinguished road
 تقييم المستوى : 341
 اوسمة :

متميز في فن العلاقات

الألفية الأولى

مزاجي
رايق
افتراضي رحلة الهدهد وعصر ثورة المعلومات -د. غانم علوان الجميلي

رحلة الهدهد وعصر ثورة المعلومات -د. غانم علوان الجميلي
رحلة الهدهد وعصر ثورة المعلومات


د. غانم علوان الجميلي *

تحدثنا في مقال سابق عن أهمية المعلومات وكونها ضرورية للإنسان ضرورة الماء والغذاء وأنها مثل الغذاء لكي تكون نافعة فلا بد أن تقدم بأسلوب مناسب حتى تتم الاستفادة منها، وضربنا مثلاً بقصة يوسف عليه السلام وطريقة عرضه للمعلومات للتدليل على أهمية العرض في الاستفادة من المعلومة. لكن البعض قد يجد مبرراً لنفسه بأن الموضوع تناول شخصية يوسف الصديق وهو أولاً نبي مرسل من الله تعالى، ثم إنه ابن نبي الله يعقوب وحفيد إسحق وجده الأكبر إبراهيم عليهم وعلى رسولنا أفضل الصلاة وأتم السلام، فأين نحن من ذلك؟ من أجل ذلك رأينا أن نقدم مثالاً آخر من القرآن الكريم يتناول موضوع المعلومات وأهميتها وكيف أنها متى ما عرضت على المسؤولين وصناع القرار بصورة واضحة فإنها قد تأتي بنتائج كبيرة. وهذه المرة نأخذ مثلاً من قصة هدهد سليمان كما جاءت في القرآن الكريم. والهدهد طائر صغير أصغر من الحمامة وأكبر من العصفور، وهو بذلك أصغر من الإنسان بكثير و لا يمتلك من قدرات الإنسان شيئاً لكنه استطاع بحسن التعامل مع المعلومات أن يحقق إنجازاً كبيراً تمثل بدخول مملكة عظيمة في دين الله، ولذلك أحببنا أن نقف عنده ونتأمل في بعض جوانبه ونستخلص منه الدروس والعبر.

والقصة في سورة النمل نذكرها باختصار وهي أن سليمان عليه السلام سأل الله أن يهبه ملكاً لا يهبه لأحد من بعده، واستجاب الله لدعاء النبي الكريم فوهب له جيشاً عظيماً فيه من الجن والأنس والطير وجميع الكائنات، وسخر له الريح تمشي بأمره حيث يشاء وعلّمه لغة التخاطب مع الحيوانات والطيور. وفي يوم من الأيام تفقد جيشه العظيم فوجد أن الهدهد كان غائباً فغضب واستنكر غيابه -فليس لجندي في جيش سليمان أن يتأخر أو يغيب مهما صغر أو كبر- فسأل عنه وعن سبب غيابه، وفي هذا الموقف درس عظيم في الإدارة والقيادة وهو عدم التفريط في أحد مهما كان وعدم التضحية بأي قدر من الإمكانيات مهما كانت، والدرس الآخر هو اهتمام المسؤول واطلاعه على شؤون المؤسسة بصورة مباشرة دون أن يدع للروتين الإداري الفرصة لحجب الرؤية ووضع الحواجز بين العاملين داخل المؤسسة. نعود إلى القصة، فبعد السؤال أمر سليمان بإحضار الهدهد إلى مجلسه ليسمع منه مباشرة السبب الذي أدى الى غيابه. حضر الهدهد إلى المجلس وهاهي الآيات تصف بأسلوب القرآن المعجز موقف الهدهد وخطابه. " فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ. إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ. وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ" (النمل- 22-24). ونود هنا أن نذكر ببعض الملاحظات المختصرة حول هذه الآيات العظيمة المحملة بالدروس التربوية وسوف نكتفي ببعض الملاحظات التي تتعلق بموضوعنا ومنها:

1. الملاحظة الأولى تتعلق بأسلوب الهدهد في التعامل مع سليمان الذي تصفه الآية بكلمات معدودة لكنها محملة بالمعاني، "فمكث غير بعيد"، فالهدهد لم يقترب كثيراً من سليمان احتراما وحفظاً لمكانته ومنزلته كقائد وملك، وهذا دليل على أهمية إظهار الاحترام للقيادة والمسؤول مهما كانت مرتبته، كما أنه لم يبتعد كثيراً أكثر من اللازم دليلاً على شجاعته وعدم خوفه من القائد، وهذا من أبواب التوسط في الأمور. وبعد ذلك قدم لتقريره بقوله، "أحطت بما لم تحط به" ثم ذكر ثقته بما عنده من معلومات "وجئتك من سبأ بنبأ يقين" وكذلك قناعته بأهمية ما عنده من معلومات. ونستدل من ذلك أيضا على أهمية الحرص على تقديم المعلومات للجهة المسؤولة التي يمكن أن تستفيد منها مباشرة.

2. إن الأسلوب الذي عرض فيه الهدهد تقريره عن الرحلة، أسلوب في أعلى درجات التنظيم والترتيب والدقة. فمن حيث الدقة، احتوى التقرير الموجز على جميع المعلومات المهمة التي يحتاجها الملك عن مملكة سبأ لاتخاذ القرار المناسب والخطوة التالية. وهذه المعلومات هي: أولاً أن النظام السياسي ملكي وعلى رأسه ملكة. ثانياً الوضع الاقتصادي في المملكة يمتاز بالرخاء "وأتيت من كل شيء" بالإضافة الى عظمة عرش الملكة كدليل على ذلك. وثالثاً بأن عقيدتهم هي عبادة الشمس من دون الله. وهنا لا بد من وقفة على أهمية أسلوب عرض وترتيب المعلومات فقد عرض هذا الهدهد العجيب دروساً في هذا المجال لا بد من الوقوف عندها. فمن حيث العرض نرى أن الهدهد لم يتطرق في تقريره إلى أي من القضايا الثانوية التي لا علاقة لها بالموضوع، صحيح أنه ذهب في رحلة طويلة شاقة من فلسطين إلى اليمن, لكنه لم يذكر أي شيء عن رحلته ومعاناته أو أياً من مشاهداته الأخرى, وإنما اكتفى بذكر رؤوس الأقلام عن تقريره أو ما نسميه اليوم "الملخص التنفيذي"، وهو ما يحتاجه القائد والمسؤول وقام بترك التفاصيل بحسب حاجة الملك لكي يسأل عن أي منها إن شاء. وهذا بذاته درس مهم، فكم رأيت في حياتي العملية أناساً يفوتون الفرص الكبيرة بسبب عدم التحضير للقاءاتهم بالمسؤولين وتضييع الوقت في سرد القصص والحكايات التي لا طائل من ورائها. كما أن المعلومات التي ذكرها الهدهد جاءت مبوبة على ثلاث نقاط قدم لها بمقدمة تقول بأن هذه المعلومات جديدة "أحطت بما لم تحط به" وهو ذكر هذه القضية ليشد انتباه سليمان له، كما أكد بأن هذه المعلومات موثوقة "وجئتك من سبأ بنبأ يقين". ثم ختم التقرير بخاتمة يظهر فيها الدافع الذي دفعه لتقديم التقرير، ألا وهو دافع الدعوة إلى الله. "ألا يسجدوا لله".

3. من الواضح من عرض الهدهد أنه على وعي تام برسالة المؤسسة التي يعمل بها وأنه قدم المعلومات من خلال أهداف ورسالة الدولة. ووضوح الأهداف من أهم عناصر نجاح العمل المؤسسي مهما كانت طبيعة وحجم المؤسسة من الأسرة إلى الشركة وحتى الدولة. فرسالة الدولة التي بناها سليمان هي الدعوة إلى عبادة الله. ولذلك فالهدهد يرى في أن هنالك فرصة للدعوة في مملكة تعبد الشمس. وهذه أوضح سمات العمل المؤسسي الناجح وهي أن القضايا التي تخدم الأهداف الرئيسة للمؤسسة هي التي تكتسب الأولوية وتحظى بأعلى درجات الاهتمام من المسؤولين.

4. كما أنه من الواضح أن الدولة كانت تمتلك نظاماً انسيابيا في التعامل مع المعلومات حيث تصل إلى أعلى هرم الدولة في وقت قصير، ومن أجل ذلك فهي تسمح لمن هم في أدنى المستويات, في هذه الحالة الهدهد، من تقديم المعلومات لمن هم في أعلاها وهو الملك، لأنهم أعلم بالمادة من غيرهم بغض النظر عن المستوى الإداري. إن مثل هذا النظام الإداري يضمن كفاءة في إيصال المعلومة ولا يضع أمامها سدوداً أو حواجز.

5. "وجئتك من سبأ بنبأ يقين" هذه الكلمات تعالج مشكلة من أهم المشكلات التي تعاني منها المؤسسات اليوم ألا وهي التيقن من المعلومة. فالعالم اليوم مليء بالمعلومات المغلوطة أو شبه المغلوطة وأنصاف الحقائق عن قصد أو دون قصد والكثير من المؤسسات الإعلامية العالمية التي كانت يوماً تفاخر باستقلاليتها فقدت مصداقيتها أمام الإغراءات المادية أو إغراء التقرب من أصحاب السلطة والتي جعلت منها مصادر للتشويش بدلاً من التوعية. إن المعلومة لكي تكون نافعة يجب أن تكون صحيحة، ولذلك وجب التيقن من المعلومة قبل نقلها وليس بعد ذلك. لكن في أحيان كثيرة يكون ثمن الكفاءة سرعة اتخاذ القرار وكثرة الوقوع في الخطأ، ولذلك وجب أخذ الحذر وعدم التسرع في اتخاذ القرار بناء على معلومات غير موثقة، فواجب المؤسسة الحيلولة دون اتخاذ القرار إلا بعد التثبت من المعلومة وهو بالتحديد ما توضحه عبارة "قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين". إذاً فالنظام يضمن للمؤسسة أعلى درجات المصداقية في أساليب اتخاذ القرار. وكم رأينا من دول عظمى تدخل في مغامرات سياسية وعسكرية وحروب لا طائل من ورائها بسبب معلومات مغلوطة ناتجة عن عدم التثبت أو أنها جاءت من مصادر مشبوهة لها نوايا غير سليمة.

إن الهدهد لم يهتد لهذه المعلومة المهمة بالجلوس في مكانه والقعود في عشه، ولو فعل ذلك لم يكن ليتعرض للوم من أحد، ولكان ضمن لنفسه عيشاً هادئاً، لكنه آثر أن يأخذ بزمام المبادرة وأن يضع تعاليم سليمان موضع التنفيذ وبفعله هذا- وهو الصغير- حقق للأمة واحداً من أكبر إنجازاتها واستحق لنفسه هذا الذكر الطيب الى يوم الدين. وكذلك الفرص تمر على الناس في كل الأوقات مثل موجات البث الإذاعي التي تملأ الفضاء من حولنا والتي تتحول إلى معلومات مفيدة أو نغمات عذبة فقط عندما تصادف جهاز استقبال مفتوح. من أجل ذلك منح الله الإنسان عدة أجهزة للاستقبال وهي العينان والأذنان واليدان واللسان، وأعطاه لساناً للإرسال، لكننا نصرف الوقت في الكلام أكثر مما نسمع أو نشاهد، ونترك هذه الأجهزة معطلة " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ" (ق-37).

وفي الختام نقول إن نقطة البداية تكمن في الاستثمار بالإنسان وإعداده الإعداد الصحيح لكي يكون عنصراً بناء في مجتمعه وأن يسخر ما وهبه الله له من إمكانيات في بناء المجتمع الصالح الذي نسعى له. إن الهدهد لم يأت صدفة وإنما هو نتاج تربية سليمان لجنده وإعداده لهم، ولذلك فمن الأولى إعادة بناء المناهج التربوية التي تعد أبناء المجتمع ليكونوا عناصر بناء لا عناصر هدم.
رحلة الهدهد وعصر ثورة المعلومات -د. غانم علوان الجميلي
* سفير العراق لدى المملكة العربيه السعوديه
منقول








توقيع »
** من احب الله ، رأى كل شىء جميلا **



* بن شفاقه *
  رد مع اقتباس