بسم الله الرحمن الرحيم
لقد خلق الله الإنسان وميزه بنعمة العقل ولكنه ينسى بل ـ أحياناـ يتناسى، وتغلبه دوافع طينته على سمو روحه. نجده ينسى عيوبه ويتناسى نواقصه ، بل ويطلب من غيره ما تعجز إرادته عن تحقيقه في كثير من الجوانب.
لا تنه عن خلق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عـــظيم.
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها *** فـــــإذا انتهت فأنت حــكيم.
فهناك يُسمع ما تقول ويُشتفي *** بالقول منك وينفع التعليم.
والإنسان عامة لا يعبر عن حقيقته دائما، فكما أن شجرة التفاح تعطي تفاحا لا حنظلاً، وكما أن الحديد والنحاس لهما خصائصهما المميزة عن بعضهما البعض، وكما أن البقر والخيل إذا ما جاعوا طعموا، وإذا ما ظمئوا شربوا، وإذا ما تلاقحوا أمسكوا ـ دون خيانةـ حتى يلدن وليدهن.
أما الإنسان فهو الوحيد الذي لديه القدرة على أن يعبر عن جوعه وهو متخم، وعن حبه وهو كاره، وعن فقره وهو غني، عن وفائه وهو خائن، وعن إخلاصه وهو مُبغض، وعن حبه للاشتراكية وهو رأسمالي جشع مستغل، وعن نهوضه بتبعات المسئوليات العامة، سياسية واجتماعية وثقافية وتعليمية وإعلامية، وهو غاش، كاذب، ظالم، عميل، مستبد، متربح، فاسد، خائن، مُزور، مُزيف الخ"، وترى سياسيين، وما أكثرهم، يكذبون الناس ويخدعونهم، وتخالف أقوالهم أفعالهم، حتى كأن السياسة قد ارتبطت بهذه السلوكيات، فبات علماً لها. ذلك الأمر الذي دعا الإمام "محمد عبده" لأن يلعن لفظ: "ساس، يسوس، سياسة".
يقول الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَاد) [البقرة: 204-205]
لقد كرمّ الخالق - عز وجل -، الإنسان وأمره بالصدق والأمانة والعدل، والوفاء، والبيان والتبيان، وعدم الكتمان، ونهاه عن الكذب والغش والغدر والخيانة والنفاق. يقول تعالىيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ *كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُون ([الصف: 2-3]
فاللكلمة جمال، وللفكرة جلال، وهما ليسا مدادا يُنثر علي ورق، وزفرات من هواء تنطلق.
بل إن لهما لمسئولية وتبعات، وتطبيق وتوجيهات ومواجهات، وصدق وإخلاص وتضحيات
لمَ قول الخير والحث عليه، مع عدم فعله؟، والنهي عن الشر، مع الاتصاف به. إن الأقوال.. موعظة وتذكيراً لن تبلغ أثرها المنشود دون اقترانها بالعمل من لدن قائليها، وضربهم المثل العملي.. كقدوة بارزة مبادرة فيما يقولون ويعظون.
إنه لوعيد شديد لمن يأمر بمعروف، ولا يأتيه، وينه عن منكر ويأتيه، قال - تعالى -: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) فهل هذه حالة تليق بمؤمنين؟ . لقد كبر مقتاً عند الله أن يقول العبد ما لا يفعل؟ يقول شعيب - عليه السلام - لقومه: (و ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه).
قال أحد الحكماء: أفسد الناس جاهل ناسك، وعالم فاجر، هذا يدعو الناس إلى جهله بنسكه، وهذا ينفر الناس عن علمه بفسقه.
كما أن العالـم الذي لا يعـمل بعـلمه مثـله كمثـل المـصـبـاح، يضيء للناس بينما هو يحـرق نـفـسه. وهو إذا حث على التحلي بفضيلة وهو عاطل منها، أو أمر بالتخلي عن نقيصة وهو ملوث بها لا يقابل قوله إلا بالرد، و لا يعامل إلا بالإعراض والإهمال بل وسيكون موضع حيره للبسطاء، ومحل سخرية للعقلاء، فسيُسخر منه، ويُستهزئ به، ويتهم في دينه وعلمه وورعه
يروى عن "أسامة بن زيد" - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان مالك، ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه(( [رواه مسلم.. تندلق أقتابه: تخرج أمعاؤه]
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال - عليه الصلاة والسلام -(أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان) ([رواه الطبراني في الكبير والبزار].
فيجب على كل من يعظ الغير أن يتعظ هو أولاً، ثم يعظ، ويُبصر ثم يُبصّر، ويهتدي ثم يهدي غيره، ولا يكون دفتراً يفيد ولا يستفيد، وأن يكون كالمسك يطيب غيره وهو طيب في نفسه، وأن لا يناقض مقاله بفعله، ولا يكذّب لسانه بحاله.
كل شيء هو نفسه إلا الإنسان كثيرا ما يكون غير نفسه، حتى بات الظن أن اللغة لم تخترع للتعبير الصادق عن النفس بل لإخفاء ما فيها والتمويه على الناس حتى لا يدركوا حقيقة ما فيها. إن دنيا الأقوال المخالفة للأعمال هي سبب قُرح المعدات، وانتشار الحوادث المشاجرات، وشيوع الانهيارات العصبية والعائلية والعمرانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
بارك الله لي ولكم بالقول والعمل وجعلنا ممن يصدقون اقوالهم بأعمالهم